ثم نهض واتجه إلى المنزل يجر قدميه جرَّاً وهو يرى في الأفق بوادرَ عاصفةٍ هوجاءَ تُنذرُ بالخطر ودخل واتجه إلى العلية وأوصد الباب خلفه وأخرج عدةَ قصاصاتٍ من الورق وقرأ أولها فإذا مكتوبٌ فيها : كنتُ أعبر سككَ الدنيا وأزقتها وحيداً ، أُسامرُ الشَّجنَ ، وأُخادنُ الوحدةَ ، وأثناء مسيري بزغتْ شمسُ حبكِ ، فأضاءتْ ظلمة دنياي ، وأزالتْ شجني ، وملأتْ قلبي أُنساً وسروراً ، فأممتها ، وغذذتُ السير إليها ، غير عابئٍ بغيرها من النجوم ، ولا آبهٍ بما يمضي من أعوام عمري ، إلى أن نَمتطي فرسَ الحُّبِّ ، ونَجْتازَ مَفَاوزَ النَّأْي ، ونعلو فوق سُحُب البين ، ونبني قصرَ الوصْلِ ، ونتكئ على أرائك اللقاء ، وننصب عرش السعادة لتجلسي عليه ، وأصدح بأعلى صوتي أحبكِ يا أرق ، وأبهى زهرة عبقتْ في أرجاء حياتي حُبَّاً لن يضعف عنفوانه إلى أن يُطوى عمري ، وتَنْفدَ أيامي ، وتَخْمدَ أنفاسي .
وفي التي تليها : إن الأجسامَ تشيخُ وتسقمُ ، والأعمارَ تُطوى وتَنْفدُ ، والأحلامَ تتغيَّرُ ، والأماني تتبدَّلُ ، والمناظرَ الخلابةَ يَقلُّ بهاؤها بتكرار النظر إليها ، أما حبكِ فمتأصلٌ في القلب ، متجذِّرٌ ، لا يَشيخُ ، ولا يَسقمُ ، ولا يَنفدُ ، بل هو فتيٌّ كيوم وُلد ، ومُحياكِ الوضيء الفاتن يزداد جمالاً وبهاءً مع كل نظرة .
وفي الثالثة : قطفتُ هذه الوردة من بستان الحب وقدمتها إليكِ لأن فيها بعضاً من رقتكِ وشذاكِ يا سيدة الحسن ولكن احذري من أن يؤذيكِ شوكها لأنه لم يُصِبْ إصابةً تامةً من شبَّهكِ بها فأنتِ أرقُّ منها ، وأنعمُ ، وأعذبُ ريَّا ، والوردُ يذبلُ مع الأيام أما أنتِ فلا يزيدكِ كَرُّ الأيام إلا بهاء.
وممهورة بالأسفل بحرفي a-r وتاريخ 1809 م .
أعاد القصاصات الثلاث مع البقية إلى الدرج ووضع كفيه على خديه وبدأ التفكير وقد أرجعه ذلك التاريخ إلى عهد الصبا عندما كان طفلاً يلعب مع أترابه ، سليم الصدر من الأحقاد والأضغان ، لا هم عنده إلا المأكل والمشرب والملبس واللهو والعبث مع لداته ومرتْ بخاطره تلك الصبية القاطنة في القصر الأفيح التي سلبتْ لبَّه فشعر بموجةٍ عارمةٍ من الحنين تجتاح قلبه دفعة واحدة فوضع يده عليه لا شعوريَّاً وضغط عليه ثم تساءل ترى ماذا حدث لتلك الصبية الآن ؟ ما حالها مع تقلبات الدنيا ؟ أهي على قيد الحياة أم واراها الثرى ؟ وإن كانتْ حية أسعيدةٌ أم شجيةٌ ؟ أتراها تزوجتْ وأنجبتْ ؟ أهي مثلي في هذه الساعة تحن إلى عهد الصبا المنصرم ؟
ثم نهض واتجه إلى النافذة وفتحها وبدأ التأمل ولكن الذكرى غلبته فعاد إلى شجرة الزان والصبية في القصر الأفيح التي تلعب معه في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى تُلوِّحُ له من شرفة القصر وتبتسمُ له ابتسامةً عذبةً تبعثُ في قلبه أُنْساً لا يُفارقه طيلة ذلك اليوم .
تبسَّم وهو يتذكَّر ذلك اليوم الربيعي ، عندما كانا يتحدثان في باحة القصر حيناً ، وحيناً يصعد الشجرة الضخمة فتطلب منه النزول كي لا يسقط ، ولكي لا يوبخه والدها إن رآه ، وحيناً يعدوان بجانب الورود ، وحيناً يرميان الأحجار في النبع ، أو يرميان الطيور التي ترتاد الشجرة .
ثم قهقه عندما تذكر إصرار الصبية على أن يتناولا الطعام في حقل الورود بسبب أنه قطف وردة وأعطاها إياها ولم تُفِدْ محاولات والديها بثنيها فانصاعا لرغبتها وتركاهما يتناولان الطعام في الحقل .
أفاق من شروده على وقع أقدام تصعد الدرج فنهض وفتح لينزل فرأى درلفر أمامه فقالتْ له : لقد أعددتُ الشاي والكعك فهلم معي لنتناوله .
سألها قائلاً : كيف أنتِ الآن ؟ هل زال العارض الذي ألم بكِ ؟ ماذا قالتْ لكِ ميريرا وأوصتكِ به ؟
ردتْ عليه قائلة : لقد طمأنتني إلى أن صحتي جيدةٌ وأن ما أصابني إرهاقٌ بسبب كثرة العمل وعلي الراحة لمدة أسبوعٍ كامل .
تنفس الصعداء وقال : عليكِ الالتزام بما أوصتكِ به ميريرا .
قالتْ : نعم ، لك ذلك فاطمئن .
ثم ابتسمتْ وقالتْ في سرها : (إن كيدَ النساءِ عظيمٌ وما هذه إلا حيلةٌ يا زوجي العزيز لأعرف سرَّ شُرودك) .
أوصد الباب خلفه ونزل معها واتجها إلى الباحة أمام المنزل وبدآ تناول الشاي والكعك وفجأة أشار إلى جهة الشمال وقال : هناك يا درلفر كنتُ ألعب مع أترابي و...
وقبل أن يكمل حديثه قاطعته قائلة : من هم أترابك ؟ وأين مكان لعبك ؟
وقع في فخها فقال : كنتُ ألعب مع بارتل ، ورافيل ، وماردل ، ولكن أجمل ساعات لعبي ولهوي هي عند شجرة الزان في الجهة الشمالية بجانب القصر الأفيح فهناك ...
الصمت في حرم الجمال جمال اشكرك علي هذه الخاطرة الرائعة كروعتك
وعلي كل هذا المجهود المميز كتميزك
كلمات ومشاعر راقت لي لرقيها ورقيكم
دمت لنا رمزا للتواصل ورقي العطاء
تحياتي واحترامي لكم